«أنتوني»: لم أملك حذاء أو سرير.. أنا قادم من العدم (بروفايل)
هناك، في الأحياء الفقيرة في «فافيلا» بالضاحية الصناعية في ساو باولو، ولد «أنتوني» الأبن الثالث والأخير لعائلة عمادها «أب» يعمل صانع أقفال، و«أم» تعمل في محال أحذية.. في وقت لاحق سيكون عمل الأم هو مفتاح نجاح أنتوني.
كتب: أحمد صلاح
حافي القدمين على أرض ترابية او خرسانية، «أنتوني» لا يهتم!.. فقط أمنحه كرة وسوف يركلها ويسارع الرياح ويراوغ الجماد، والإنسان.. وحتى الكلاب الضالة.
في أحد أعياد الكريسماس، منحته والدته «كرة» فكانت الهدية الأكثر قربا لقلبه، كانت اللحظة الأكثر سعادة في طفولته، يقول «أنتوني»: «على الرغم من كل معاناتنا، فقد تلقيت هدية من السماء، كانت الكرة هي منقذي، حبي من المهد، لا نهتم بألعاب الكريسماس أي كرة تتدحرج هي مثالية لنا».
في أحد الأيام عندما كان «أنتوني» صاحب السبع سنوات بصحبة والدته في أحد طرقات الحي، رأى سيارة حمراء رائعة، كانت من نوع رينج روفر، أخبر والدته أنه يوما ما سيشتري لها تلك السيارة، نظرت إليه والدته وضحكت وربتت فوق كتفيه واحتضنته.. سنوات ويبقى الحلم حقيقة.
اعتاد شقيقه الأكبر أن يصطحبه كل يوم إلى ملعب في أحدى ساحات «فافيلا» الخرسانية، هناك يتعرف أكثر على الحي الذي جاء منه، الأطفال، الكبار، المعلمين، البنائين، سائقي الحافلات وتجار المخدرات وقطاع الطرق، الجميع داخل الملعب الخرساني سواسية.
يقول «أنتوني»: «كنت صغيرًا، كنت أراوغ الجميع، كانت الغريزة هي من تقودني، لم أعرف كيف أبدي احترامي لكبار الحي.. قبل أن أدلف بقدمي إلى أرض الملعب يخبرني شقيقي ألا أوجه إهانة إلى احد هؤلاء.. فهم عتيدي الإجرام، لكني ببساطة رفضت أن أحني رأسي لأي شخص، كنت أراوغ تجار المخدرات وكبار السن، لم أكن أعطي أحدا اهتمام ما دامت الكرة بين قدمي فأنا ملك هذا الكون، لذا عندما يحدثني أحدهم عن الخوف ما قبل أية مباراة؟ أضحك وتدور في رأسي إجابة واحدًة.. لقد ولدت في الجحيم، من هناك تحسست أولى خطواتي».
يا صديقي.. لا تحدثني عن الخوف الذي يعتريك على أرضية خضراء ومن حولك جهاز فني وأمن مدجج بالسلاح فقط لحمايتك.
يقول «أنتوني»: «في صباح أحد الأيام، عندما كنت في عمر الـ 9 سنوات، وجدت رجلا ساقطا في الزقاق المؤدي إلى مدرستي، عندما دنوت منه أدركت أنه مات، من حيث أتيت هذا أمرًا معتاد، لم أكن استطيع العودة إلى البيت مرة أخرى، لذا كان الحل الوحيد أن أغمض عيني وأقفز فوق الجثة وأمضي في طريقي لا أبالي».
كانت عائلته رغم ضيق الحال، وإيمانها بموهبته إلا أنها رأت في التعليم فرصة لا يجب أن يضيعها أحد أبنائها، قدمت له المدرسة فرصة التعلم وكذلك منحته مساحة أكبر للعب كرة القدم، تقول مدرسته: «الكرة كانت كل شيء في حياته، لم يترك فسحة إلا وكانت الكرة ترافقه، كان يراوغ المدرسين وزملاءه، لم يدع أحدا إلا ووجه له إهانة له على طريقته».
شراء الأحذية الرياضية لم يكن ضمن ميزانية عائلة «أنتوني» لكنهم وجدوا طريقة ما للتحايل على الأمر يقول «أنتوني»: «كانت والدتي تعمل في محل لبيع الملابس والأحذية بالقرب من منزلنا، الحذاء الذي استخدمته في الاختبارات التي دخلتها بنادي ساوباولو، لم يكن ملكي، استعارته والدتي من محل عملها دون أن يدري صاحب العمل ذلك، حسنا.. دعنا نسميها استعارة، لم يكن المال متوفرا لشراء حذاء رياضي بأية حال».
أنا قادم من العدم، لم أكن أملك حذاء، لم أكن أملك غرفة نوم تسطع النجوم عندما أطفئ النور فوق سريري.. في الحقيقة أنا لم أكن أملك سريرا، كنت أنام على الأريكة في غرفة والدي، عندما يتحدث أحد عن الخوف من أصدقائي الأوروبيين تصيبني هستيريا من الضحك، من حيث أتيت كان تجار المخدرات والمجرمين هما قاطني الحي الذي قضيت فيه طفولتي ومهدي، كان والدي في أيام الأحد يخرج رأسه من النافذة فقط ليصرخ في أحدهم لأن يدخن مخدراته بعيدا عن نافذة أطفاله.. كان الحي يسمى بـ«الجحيم الصغير»، لذا أرجوكم لا تحدثوني عن الخوف في أية مباراة، أنا أتيت من الجحيم منذ المهد.
نشأ «أنتوني» في المكان الخطأ، مع الأشخاص المناسبين، كان لديه «بابا نويل» خاص يدعى العم «تونيوليو» الجار الذي منحه الفرصة الأكبر للتعلم من أساطير كرة القدم.
يقول «أنتوني»: «العم تونيوليو هكذا كنا نطلق عليه في الحي، عاملني كأبنا له، كان يسمح لي بسرقة شبكة WiFi الخاصة به حتى أتمكن من مشاهدة مقاطع كرة القدم لأساطير اللعبة (كرستيانو، نيمار، رونالدينيو) لأذهب إلى الملعب الخرساني وأقلد مراوغاتهم، هناك شيئ لا يفهمه البعض عن الاحياء الفقيرة، إذا كان لدى تونيولو رغيفان من الخبز – كان واحدًا له ، والكمية الإضافية لنا».
كانت الحياة رغم قسوتها إلا أنها رائعة بدفء الأسرة، كانت أحلامه سبيله الوحيد للهروب من واقعه المؤلم، في النهار يهرب بـ«الكرة» من الفقر، وفي المساء يهرب من البرد القارس في حضن والديه، لكن في عمر الـ 11 عاما تغير شيئا ما، يقول «انتوني»: «عندما كان عمري 11 عامًا ، انفصل والداي، كانت أصعب لحظة في حياتي، لأنه على الأقل قبل ذلك كان لدينا بعضنا البعض، الآن أنا ووالدتي وأخوتي فقط.. كنت ألتفت إلى جانب أمي من السرير في منتصف الليل أجدها فارغا.. كان ذلك مدمرًا، لكنه منحني أيضًا الكثير من الحافز، اعتدت أن أغلق عيني وأفكر “سأخرجنا من هذا.”
خطة الله هكذا يصف «أنتوني» رحلة احترافه التي بدأت في عمر الثانية عشر، عندما انضم إلى نادي ساو باولو لكرة القدم، تلك المرة الأولى التي أرتدى فيها حذاء المحترفين، قبل ذلك كان اللعب حافيا سبيله الوحيد، يقول «انتوني»: «كل يوم بعد المدرسة، كنت أسافر إلى الأكاديمية على معدة فارغة، من الساعة التاسعة صباحا إلى التاسعة مساء حتى أعود إلى المنزل، لم يكن علي التظاهر بالجوع من أجل التحفيز. كان الجوع حقيقيًا».
كانت هناك لحظات عندما كنت أنا وأخي وأختي نبكي ونعانق بعضنا البعض ونفكر في حياتنا، كانت هناك أوقات في منتصف الليل تغرق شقتنا الصغيرة بالمياه، كنا نبعدها عن منزلنا لنستطيع النوم، كنا نبكي أحيانا وأحيانا أخرى كنا نفعل ذلك بابتسامة على وجوهنا».
6 سنوات قضاها أنتوني في نادي ساو باولو، في أحد الأيام عندما كان يلاعب نادي ساو باولو فريق كورينثيانز في نهائي باوليستا، احرز أنتوني هدف الفوز، كانت المباراة تذاع في إحدى ساحات مسقط رأسه «فافيلا» عندما عاد إلى المنزل بعد نهاية المباراة، أوقفه أحدهم وأخبره أنه رآه في التلفاز منذ قليل ما الذي جاء به إلى حي «الجحيم الصغير» هكذا كان يطلق على حي فافيلا، عندها أخبره «انتوني» أنه أحد أبناء الحي ويعيش بجوار أحد تجار المخدرات المعروفين.
يقول أنتوني: «حتى عام 2018، كنت أنام بجوار والدتي على السرير أو استلقى بجانبها على الأريكة، هناك قضيت كل حياتي، لكن لم يصبني اليأس يوما، كان الغضب الذي بداخلي حافزا لا ينضب أبدًا، كنت أعرف أن الفرصة قادمة بكثير من الجهد والمثابرة والعمل».
الموهبة التي أظهرها في ساو باولو، لفتت إليه انظار الكشافة الأوروبيين، والحلم اقترب ولامسه بيديه، في عام 2020 «أياكس» الهولندي أخبره أنه يريد أن يحظى بخدماته، مقابل ما يقرب من 18 مليون يورو، في ذلك اليوم عاد «أنتوني» إلى عائلته احتضن والدته وأخوته وأخبرهم أن الحياة تجري كما خطط لها، القدر استجاب لدعائي وحقق احلامي.
يقول «أنتوني»: «تغيرت الأمور بسرعة، عاما واحدا كان كافيا لأن ألامس النجوم وأن احقق احلام عائلتي، الآن لدي سريرا خاصا، وسيارة رينج روفر حمراء في ممر والدتي، عندما اشتريتها همست في أذن والدتي: أخبرتك أنني سوف امنحك هذه السيارة، أخبرتك أنني سأنتصر».
فصلا جديدا بدأ في ملعب يوهان كرويف آرينا، قدم «أنتوني» أداءا رائعا مع مدربه إريك تين هاج، كانت احلامه تعانق السماء، اللعب في واحد من أقوى الدوريات في العالم، واللعب بدوري الأبطال البطولة الأعظم، يتذكر«انتوني» كل يوم قصته، كيف هرب من الأحياء الفقيرة وغارات الشرطة اليومية إلى دوري الأبطال، ثلاث سنوات كانت كافية من ساو باولو مرورا إلى آياكس امستردام.. وأخيرا إلى مسرح الأحلام الأولد ترافورد.
انتقل «أنتوني» إلى مانسشستر يونايتد في صفقة بلغت 100 مليون يورو، ليبدأ فصلا جديدا في حلمه الكبير، يقول عن ذلك: «عندما أنحني لاربط أربطتي حذائي، أتذكر كل شيء، كتبت على الحذاء كلمة واحدة «فافيلا» هناك من حيث أتيت حيث الجحيم بكل ما تحمله الكلمة من معنى».
كان الحلم الأكبر أن يمثل «أنتوني» منتخب السامبا – البرازيل – في كأس العالم، وهو ما حدث، يقول «انتوني»: «ثلاث سنوات فقط، انتقلت خلالها من حي فافيلا حيث الجحيم إلى آياكس ومنه إلى مانشستر يونايتد»، يصمت قليلا، تخرج دمعة من عينيه ويشخص بنظره إلى السماء، يعود من جديد إلى أرض الواقع، ويطلق تنهيدة طويلة: «من قال أن الأحلام لا تتحقق، في قصتي الأحلام ممكنة، هذه قصتي أرويها لكم ولأصحاب الأحلام الكبيرة في الأحياء الفقيرة.. نحن نحلم لنا ولعائلاتنا، نحن الفقراء الذين نبحث عن الفتات وعن الحياة ما استطعنا إليها سبيلا».