مطاردًا من الموت باحثًا عن الأمل.. «ألفونسو ديفيز» من أهوال الحرب إلى المجد

0

كتب: أحمد صلاح

في صباح كل أحد، إعتادت فيكتوريا ديفيز، في الساعة السابعة صباحا أن ترتكن إلى جانب في المنزل المتواضع في مدينة إدمونتون بكندا، تضع أصابعها فوق البيانو وتطلق العنان لنفسها لتسمع أطفالها «ألفونسو، برايان» مقطوعة من موسيقى الإنجيل.. كانت تلك الموسيقى الرابط الوحيد الذي جمع «ألفونسو ديفيز» بموطنه الأصلي في ليبريا.

- الإعلانات -

قبل نحو 20 عاما، كانت الحرب الأهلية الثانية في ليبريا تبدأ في الوصول إلى ذروتها، الموت يحاصر الجميع، الدماء تتناثر والخوف يحكم قبضته على كل شيء، أنذاك قرر «ديبياه ديفيز، وزوجته فيكتوريا» أن يهربا من حياة الجحيم إلى عالم أكثر رحابة، أرادا لأطفالهم بداية مختلفة وعالم أكثر عدلا بعيدا عن أهوال الحرب.

- الإعلانات -

«الحياة كانت كالجحيم، الموت في كل مكان، كان مشهد جثث الموتى في الطرقات عاديا، أردنا حياة مختلفة لأطفالنا، لذا كان قرارنا الأول الفرار من الحرب إلى غانا، هناك حيث توجد بداية جديدة في أجواء أكثر سلاما» يقول ديبياه والد لاعب بايرن ميونيخ ومنتخب كندا ألفونسو ديفيز.

على حدود مدينة بودوبرام الغانية، التي يحدها خليج غينيا من الجنوب، توجد منطقة صحراوية شاسعة تتراص فيها مجموعة من الخيام، هناك كان الفرار الأول لعائلة «ديفيز».

تركوا خلفهم الموت لينعموا بحياة أكثر أمانا وسلاما لهم ولأطفالهم، لكن الواقع كان مختلفا قليلا عن ما تخيلوه، يقول ديبياه والد ألفونسو: «الأموال شبه معدومة، كنا نعيش في ظروف غير آدمية، بالكاد نحصل على شربة الماء وبالكاد يكفي الطعام لإطعام أطفالك، تلك لم تكن الحياة التي أردناها لأطفالنا، لذا كان الفرار الثاني الأمل الأخير ليحظى أطفالي بالحياة التي تجعل منهم أشخاصا أسوياء».

مشهد 1

داخل منزل بسيط في إدمونتون، يستيقظ «ألفونسو» صاحب الستة أعوام، على صوت نقرات ندف الثلج على نافذته، كانت المرة الأولى التي يرى فيها الثلج الأبيض يتساقط، ترتسم ابتسامة على شفاه، يركض من غرفته صوب باب المنزل يبدأ بالقفز على الثلوج، يصنع كرة ويقففزها في الهواء، ينظر خلفه يجد والديه يخرجان من المنزل ويبدآن اللهو معا على الثلج.

ما قبل عمر الست سنوات، لم تحتوي ذكريات «ألفونسو» على الكثير، فقط خطوط عريضة عن حياة عاشها من قبل، والداه حرصا على ألا يُكوٍن ذكرياته في الصحراء والفقر المدقع، أرادا له أن يعيش حلمهما، يقول «ألفونسو»: «لم أعرف شيئا عن ماضي والدي، كانت تلك الفترة من حياتهما مظلمة، مليئة بالأسرار، فقط أخبرونا القليل عن جذورنا التي تمتد إلى إفريقيا بالتحديد ليبريا التي مزقتها الحرب الأهلية».

كبر «ألفونسو» طفلا هادئا، خجولا، لا يملك الكثير من الأصدقاء، لا يعرف الكثير في محيطه السكني، حاولت عائلته أن تدمجه بشكل أسرع، وكانت الرياضة السبيل لأن يصبح اجتماعيًا أكثر، يقول ألفونسو: «مارست الكثير من الألعاب، سباقات السرعة، كرة السلة، الهوكي لكني كنت لا أقوى على الوقوف حتى أسقط سريعا».

في أحد الأيام، أخبره زميلان له في المدرسة أنهم يستعدان للمشاركة في فريق كرة قدم عن الحي، بالنسبة له لم تكن كرة القدم الرياضة المفضلة له، لكنها فرصة لتكوين صداقات جديدة، فقال «لما لا، سوف أذهب معكم».

مشهد 2

والده كان عاشقا لكرة القدم، كان يمارسها مع فريق محلي، وإعتاد كل يوم أحد في المساء أن يشاهد مباريات فريقه المفضل «تشيلسي»، في ذلك الوقت عشق «ألفونسو» كرة القدم واحتفال اللاعبين بالأهداف وسط آلاف المشجعين، الفرحة التي تعتريهم لهز الشباك، يقول «ألفونسو»: «كبرت على صراخ أبي وفرحته لتسجيل ديديه دروجبا هدفا في شباك الفرق المنافسة، كان لاعبا قادما من إفريقيا حيث ولدت يصنع النجاح في بلاد أوروبا، كنت أخلد إلى النوم وأحلم أني احتفل مع آلاف المشجعين بالأهداف وأن أرسم البسمة على شفاه والدي».

ذات يوم عندما كان «ألفونسو» في التاسعة أو العاشرة من عمره، رأه زملاء له يركل الكرة في فناء المدرسة، تقدما إليه بضع خطوات وأخبراه أنهم ذاهبان لاداء اختبار في فريق المدينة، ودعوه لأن يذهب معهم، في الطريق أراد أن يتراجع فهو لا يعرف الكثير عن كرة القدم، لكن أصر الأصدقاء الجدد على أن يمضي معهم وأخبراه «لا تقلق أنت جيد كفاية لأن تصبح ضمن الفريق»، كانت تلك الكلمات الأولى لزرع الثقة في نفسه.

يقول ألفونسو: « في البداية، لم تكن لمستي موجودة حقًا، ولكن بعد ذلك قمت بمراوغتين، ونمت ثقتي وسرعان ما كنت أظهر ما يمكنني فعله، بعد ساعة أو ساعتين كنا نجلس على العشب ننتظر سماع ما إذا كنا نجحنا أم لا، جاء المدرب وفجأة هدأ الجميع وأخبرنا أننا نجحنا في الاختبار وأنضممنا للفريق، أتذكر سعادتي جيدا، فانا رسميا في الفريق المحلس للمدينة».

 

مشهد 3

طفل في عمر الثانية عشر، يعمل والده في مصنع لتعبئة الدجاج، يغادر في منتصف الليل ويعود إلى المنزل بعد الظهر، وأم تعمل عاملة نظافة، تغادر الساعة 9 مساءً وتعود في الساعة 8 صباحًا، في ذلك الوقت كان دور «ألفونسو» أن يتولى الاهتمام بشقيقيه، يقول ألفونسو: «في ذلك العمر كان الوقت الأفضل لتطوري وتحسين جودة اللعب، لكني كنت أقضي الوقت في تغيير الحفاضات وغناء التهويدات».

في أحد الأيام ترك زميل لهم الفريق، وأخبر «ألفونسو» أنه يمكنه أن يصطحبه معه لينضم لصفوف الفريق الثاني، يقول «ألفونسو»: «كان الفريق الأسوأ على الاطلاق حتى هذه اللحظة لا أعرف لماذا وافقت على هذا العرض، لكن تلك كانت لعبة القدر، الله أراد ذلك، في وقت لاحق يتحول مدرب هذا الفريق المتواضع إلى وكيلي الخاص والأب الروحي لي في اللعبة».

يقول ألفونسو: «كان يصطحبني للتدريب ويقود بي إلى المنزل، كان يعطيني الطعام، كان يتأكد من أنني كنت أقوم بعمل جيد في المدرسة وفي اللعبة.. كان يهتم بي كما لو كنت ملكه».

في أغسطس 2015 ، عندما كان عمري 14 عامًا ، أصبحت جيدًا بما يكفي للانضمام إلى فريق فانكوفر وايتكابس.

مشهد 4

«في الجلسة التدريبية الأولى، وجهت تحية سريعة للجميع وحاولت أن أجعل كرة القدم تقوم بالحديث، لكنهم لعبوا الكرة بقوة أكبر وأسرع مما فعلت، اعتقدت أنني لا أعرف ما إذا كان بإمكاني اللعب هنا».. يقول ألفونسو.

دقائق وتمالك «ألفونسو» نفسه، وبدأ يترك كرة القدم تتحدث نيابة عنه، بعد أن ادوا تمارين الإحماء، قسم المدرب اللاعبين إلى فرقتين، ليبدأ تنفيذ ما تدربا عليه، خلال المباراة التدريبية، بدأت تنتقل الكرة بين أقدام اللاعبين، فجأة وجد «ألفونسو» الكرة بين قدميه، دحرجها للامام وانطلق في مواجهة قائد الفريق، راوغه ومر منه بسلاسة، سمع صرخات الجميع «الطفل الصغير وجه إهانة للقائد وراوغه مثل طفلا صغير».

ألفونسو ديفيز
ألفونسو ديفيز

في 15 يوليو 2016، وقع «ألفونسو» عقد الفريق الأول، كانت خطوة مليئة بالخوف والرهبة والشك أيضا، دارت في عقله العديد من التساؤلات، هل هو جيد كفاية؟ هل يستطيع مجاراة رتم اللعب؟، ترك كل ذلك خلفه وحاول أن يستمتع باللعب.

يقول «ألفونسو»: «في اليوم التالي كنا نلعب مع أورلاندو سيتي أمام 22000 مشجع في بي سي بليس، جلست على مقاعد البدلاء ورأيت أورلاندو يأخذ زمام المبادرة، لقد قلبناها لكنهم بعد ذلك تعادلوا ليصبحوا 2-2، بينما كنت أحاول استيعاب ما كان يحدث ، التفت المدرب نحوي، وأخبرني: ألفونسو ، اذهب إلى الإحماء».

بدأت الإحماء برفقة ثلاثة رجال يكبروني عمرا وجسدا، ثم قبل نهاية المباراة بنحو 14 دقيقة، نظر إلي المدرب وقال: «هيا أنزل وأنثر سحرك على الجميع، وأنا تجمدت في مكاني».

.في عام 2017، أصبح «ألفونسو» لاعبًا أساسيًا في الفريق الأول، في العام التالي سجل ثمانية أهداف، وحصل على لقب أفضل لاعب في Whitecaps لهذا العام.

 

مشهد 5

اليوم الذي حصل فيه على الجنسية الكندية رسميا في عام 2017، أنتج فريق فانكوفر وايتكابس — النادي الذي صنع اسمه فيه عندما كان يبلغ من العمر 16 عاما-فيلما قصيرا واحتفالا جزئيا وإحياء ذكرى رحلته.

كانت هذه هي المرة الأولى التي يسمع فيها «ديفيز» رواية والديه المباشرة عن الجزء المعتم من حياتهم، الذي لم يعرفه من قبل، ووصفوا قرار الفرار من أعمال العنف التي تطارد ليبريا، تحدثوا عن حقائق الوجود في «بودوبورام» المخيم الواقع على حافة العاصمة الغانية أكرا، حيث وجدوا أنفسهم. تحدثوا عن الجوع والفقر وعدم اليقين والخوف.

كان الامر بمثابة الصاعقة بالنسبة لـ«ألفونسو» لم يطلعه أحد على تلك الحقائق من قبل، ظهر والديه في مقطع الفيديو المصور وأخبرا الجميع بقصتهم، الأمر يشبه التواجد في حاوية لا يمكنك تركها، لأنك لا تعرف ماذا سيحدث لك، كان من الصعب العثور على الطعام والماء، أنت لا تعرف ما سيأتي في اليوم التالي، يقول ألفونسو: «لم تعرف أمي كيف ستطعمني، وتعتني بي، بكت كثيرا، كانوا يكافحون من أجل أنفسهم ومن أجلي، لم أكن أعرف تفاصيل تلك الحياة حتى أجروا تلك المقابلة».

 

مشهد 6

في عام 2018، كانت المفاجأة الأكبر في حياته، بايرن ميونيخ النادي العريق قدم عرضا من أجله، يقول «ألفونسو»: «أعتقد أنني كنت جاهزا بعض الشيئ، اختفى التوتر والخوف، تحولت من الطفل الخجول إلى واحدا أكثر ثقة، أردت فقط أن أظهر للناس أنني أستطيع اللعب على هذا المستوى، وبما أنني قطعت شوطًا طويلاً، أردت أن ألعب بابتسامة على وجهي».

لم يكن بايرن ميونيخ العرض الأول، سبقه مانشستر يونايتد، إذ قدم عرضا للاختبار لمدة 3 أسابيع، مع ملاحظة بعدم قدرتهم على استخراج تأشيرلاة عمل له في هذا السن، لكن الطلب قوبل بالرفض، ومن ثم ظهر بايرن ميونيخ.. من يستطيع أن يقول لا للفريق البافاري.

بداية «ألفوسنو ديفيس» في الفريق البافاري مثالية، خلال النصف الأول من الموسم لم يحصل الشاب صاحب الـ18 عاما إلا على  74 دقيقة فقط، يقول «ألفونسو»: «تحطمت نفسيتي، عاود شعور الشك الظهور في حياتي مرة أخرى، كانت الأمور تصبح أكثر صعوبة، لكني أتبعت النصيحة الأغلى في حياتي (استمر في العمل فقط).

بعد تلك الفترة، كان القدر له دوره، بدأت الإصابات تضرب دفاع البافاري واحدا تلو الأخر، وهنا سنحت الفرصة لأن يعود «ألفونسو» لتقديم عروضه المثالية في البوندسليجا ودوري الأبطال، ويتحول الشاب الوديع إلى وحش كاسر يخضع كبار أوروبا والبوندسليجا.

-الإعلانات-

اترك تعليقا

قد يعجبك أيضًا